ففي يوم الخميس :( 17/3/1981مـ) الموافق لعام ألف وأربعمائة وواحد للهجرة النبوية: (1401هـ )
جاء موعد السماء مع الأم المجاهدة ، والداعية الراشدة : ( بَنَان الطنطاوي ).
فقد جاءت الأخبار المشئومة إلى هؤلاء المجرمين بأن عصام العطار ربما كان مختبأً في بيت زوجته ( بنان الطنطاوي) .
فأسرع هؤلاء السفَّاكون للدماء إلى ذلك البيت المتواضع الواقع في شارع « هِرِسْتالَر » الذي تقيم فيه بنان وحيدة بلا أهل ولا زوج !
وقاموا باقتحام منزل جارتها المسكينة، وأجبروها على الاتصال هاتفيًا بالمجاهدة بنان ، تخبرها أنها آتية إليها لتجالسها بعض الوقت، وتُؤانسها وحْدتها !
وسَرَعَان ما سمعَتْ بنانُ دقَّاتِ الباب تضرب في سمعها، فقامت كي تفتح الباب وتستقبل جارتها .
ولم تكن تعلم أن الموت ينتظرها خلف هذا الباب ، وأن الوعد الحق إذا نزل فُتِّحَتْ له الأبواب !
ولم تكن تدري أن جنات الخلد قد ازَّيَّنَتْ لها – إن شاء الله – وتعطَّرتْ.
وأن شموع الأفراح قد أُوقِدَتْ ، وشموس الأنوار قد أشرقتْ ، وأن الصبايا الحور قد حضرتْ لزفاف العروس وهم في صفوف، وجاءت لتصعد بروحها الطاهرة إلى معارج السماء وهي بها تطوف.
وأن ملائكة الرحمن قد أعدَّت موكبًا – إن شاء الله – لاسْتقبالها عندهم هناك؟
وما أدراك ما هناك ؟ حيث ما لا عينٌ رأتْ ! ولا أذنٌ سمعتْ ! ولا خَطَر على قلب بَشَر !
نعم: قد آنَ للجسد الضعيف أن يستريح ، ويسْكنَ منه ذلك القلب الجريح !
نعم: قد آن الآوان لأن تتوقف تلك الدموع ، ويطمئن ذلك الفؤاد الموجوع !
وهنا: جاء ميقات الأجل المحدود، ودقَّت ساعات ذلك اليوم الموعود المشهود.
وقامت المجاهدة بنان بكشف ما بينها وبين راحة قلبها من الحجاب ، وفتحت بيدها مغاليق الباب.
فهجم عليها أولئك الأنْذال الأرْذال ! وقلبوا البيت رأسًا على عقِبَ في الحال ؛ بحثًا عن زوجها عصام ليقتلوه أمام عين امرأته التي لا تجد لها من دون الله موئلا ولا ناصرًا !
ولـمَّا لم يجد هؤلاء القَتَلة عِصَامهم ! عمدوا بأيديهم إلى تمزيق بَنَانِهم !
وأحاطوا بالمرأة الضعيفة وقد أسدلوا عليها أستار الأحقاد ! وغفلوا عن أنَّ عين الله تراقب أمثالهم من ظالمي العباد !
ثم تقدم إليها أشقى القوم ، وشَهَر مسدسه في وجه المرأة الوحيدة وهي تنظر إليه نظرة المظلوم إلى ظالمه ، والمقتول إلى قاتله !
وكأنها تقول له:
ما ذنبي حتى يُرَاق دمي ؟
وما جريمتي حتى تستبيحون حُرْمتي ؟
وما هي جنايتي حتى تطأونَ رقبَتي ؟
وما هي جريرتي حتى تُيَتِّمُونَ ابني وابنتي ؟
وما هو جُرْمي حتى تُثْكِلُونَ أبي وأُمِّي ؟
وما هو سوء عملي حتى تذبحونَ بقتْلِي قلْبَ زوجي ؟
لكن تلك النظرات التي تعصر قلوب أهل الإيمان ، لم تكن بالتي تستطيع التأثير على أبناء الشيطان ومنْبع الظلم والطغيان !
وهنا : أطلق هذا المجرم الأثيم خمسَ طلقات متتابعات على جسد تلك المرأة المجاهدة .
فاخْتَرَقَتْ بعض الطلقات: وجهها الأسيل الجميل ، ذلك الوجه الذي كانت دموع عينيه كثيرًا ما تتساقط على خدوده من خشية الله ، وحزنًا على المسلمين المضطهدين المعذَّبين هنا وهناك.
ذلك الوجه الذي ما كان ينحني إلا لله وحده .
ذلك الوجه الذي كانت تَتَراءى على قَسَمَاته أنوار السماحة والرحمة في أسمى معانيها.
واخْتَرَقَتْ بعض الطلقات: جَنْبها وما تحت إبطها ، ذلك الإبط الشريف الذي طالما تأبَّطَ المعونات والحوائج إلى تلك الأُسَر البائسة التي لا عائل لها !
وذلك الجنْب الرقيق الذي كان يتجَافَى عن المضاجع والناس نيام في سُبَاتٍ عميق !
واخْتَرَقتْ بعض الطلقات: صدرَها الحنون الحزين ، ذلك الصدر الذي كانت تشتعل فيه دائمًا نيران الحسْرة على المشرَّدين والمطاردين هنا وهناك من أبناء المسلمين
ذلك الصدر الذي كان قلْبه ينزف كل يوم على أحوال الموحِّدين .
ذلك الصدر الذي كان يحتمَّل عظيم الأسَى والحزن ابتغاء مرضات الله وحده
ذلك الصدر الذي ما كان يَئِنُّ ويشتكي إلا إلى خالقه .
وبعد أن فرغ هذا القاتل الأجير من إنفاذ طلقات مسدسه في جسد ضحيته المغْتَرِبة الوحيدة ، وشاهدها وهي تسقط أمامه والدماء تفور منها كما يفور ماء القِدْرِ إذا أوْقَدتَّ عليه النار !
لم يكْفِه ما اقترفتْه يداه مما لا تغسله مياه الأنهار ! فقام يطَأُ ويدوس على قتيلة الإسلام بقدميه شديدًا ! كأنه يظن نفسه يطأُ كلَّ جسد باع نفسه لله ! وبذل مُهْجته ابتغاء مرضات الإله .
وما زال هذا القاتل الأثيم يطأ جسد القتيلة المظلومة حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها تشتكي له ظلم عباده لها ولزوجها ! وتُخْبره – وهو أعلم – بقصة آلامها وأحزانها .
وأقول أنا أبو المظفر السِّنَّاري كاتب هذه المقالة: والله لستُ أجد عندي الآن، من المعاني والبيان ، ما أستطيع أن أصِف به ما يسكن في قلبي على تلك المرأة من المآسي والأشجان !
ووالله ما أكاد أدري كيف أتكلَّم ؟ ومتى كان لسانُ قلمي يُفْصحُ عن مكنون صدري وما لأجْله أتوجَّعُ وأتألَّم !
لقد كان مقتل تلك المجاهدة في نفس العام الذي كان فيه ميلادي !
فانظروا كيف أن الأحزان لا تزال تلاحقُني منذ مبْدأي ومعادي ؟
بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها *** وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ ؟
ولو قيل لي الآن: ماذا تشْتهي ؟ لقلتُ مِنْ فَوْري: أشْتَهي - لو كنتُ في مدينة ( آخن ) الألمانية - أنْ آتي مقبرة « هُلْس » وأبحث عن قبر تلك المرأة الشريفة كي أدعو الله لها ، وأقوم على جَدَثِها باسْتذكار صبرها وجهادها ، ثم أقف على رأسها أبْكي حتى تَبلَّ دموعي ما انتهتْ إليه من جسدي ، وأجد حرارتها ما بين قلبي وصدري .
ليتتي كنت مع هؤلاء القوم الذين حملوا جنازتها على أعناقهم في يوم مشهود في قلب مدينة ( آخن ) الألمانية.
لقد كان نبأ مقتلها عظيم الوقْع على المؤمنين في تلك الأوقات ، وقد سارتْ به الصحف السيَّارة ، وتناقلتْه الوكالات والمجلات والجرائد .
حتى قام الشيخ عبد الحميد كشك المصري – وقد كان واعظ الدنيا في عصره – بإلقاء خطبة حزينة على آلالاف الناس ، يذكر فيها خبر تلك المرأة المجاهدة التي اغتالتْها أيادي الغدر والظلم والعدوان .
وعلى هذا الرابط: تجد طرفًا من خطبة الشيخ كشك، يرحمه الله .
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson...lesson_id=4902ولقد وقع الوجوم والاكتئاب على وجوه صالحي العباد في تلك الأيام ، وحزنوا وبكوا على القتيلة المظلومة كأنها كانت بعض أقاربهم أو مَنْ يعرفون ؟
وإذا كانت أشجاني وأشجان غيري على تلك المرأة التي لم يروها ! ولم يعاشروها ! فضلا عن أن تكون لهم بها صلة الأرحام !هي بعض ما ذكرتُ لك !
فيا تُرى: كيف كان حال أبيها عليها ؟ وهي التي كانت ريحانة حياته ، وزهرة أوقاته ، ونسمات إحساسه ومعانيه ، وشمس أيامه وقمر لياليه ؟
تابعوا البقية ...